فصل: المسألة الأولى: (في أن أربعة أخماس الغنيمة للغزاة الذين غنموها):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مسائل من أحكام هذه الآية الكريمة:

.المسألة الأولى: [في أن أربعة أخماس الغنيمة للغزاة الذين غنموها]:

اعلم أن جماهير علماء المسلمين على أن أربعة أخماس الغنيمة للغزاة الذين غنموها، وليس للإمام أن يجعل تلك الغنيمة لغيرهم، ويدل لهذا قوله تعالى: {غَنِمْتُمْ}، فهو يدل على أنها غنيمة لهم فلما قال: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} علمنا أن الأخماس الأربعة الباقية لهم لا لغيرهم، ونظير ذلك قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث} [النساء: 11] أي ولأبيه الثلثان الباقيان إجماعًا، فكذلك قوله: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} أي وللغانمين ما بقي، وهذا القول هو الحق الذي لا شك فيه، وحكى الإجماع عليه غير واحد من العلماء وممن حكى إجماع المسلمين عليه ابن المنذر وابن عبد البر، والداودي والمازري، والقاضي عياض وابن العربي، والأخبار بهذا المعنى متظاهرة، وخالف في ذلك بعض أهل العلم، وهو قول كثير من المالكية، ونقله عنهم المازري- رحمه الله- أيضًا قالوا: للإمام أن يصرف الغنيمة فيما يشاء من مصالح المسلمين، ويمنع منها الغزاة الغانمين.
واحتجوا لذلك بأدلة منها قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} [الأنفال: 1] الآية. قالوا: الأنفال: الغنائم كلها، والآية محكمة لا منسوخة، واحتجوا لذلك أيضًا بما وقع في فتح مكة. وقصة حنين قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة بعشرة آلاف مقاتل، ومن على أهلها فردها عليهم، ولم يجعلها غنيمة ولم يقسمها على الجيش، فلو كان قسم الأخماس الأربعة على الجيش واجبًا: لفعله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة. قالوا: وكذلك غنائم هوازن في غزوة حنين، أعطى منها عطايا عظيمة جدًا، ولم يعط الأنصار منها مع أنهم من خيار المجاهدين الغازين معه صلى الله عليه وسلم، وقد أشار لعطاياه من غنائم هوازن في وقعة حنين الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في غزوة حنين بقوله:
أعطى عطايا شهدت بالكرم ** يومئذ له ولم تجمجم

أعطى عطايا أخجلت دلح الديم ** إذا ملأت رحب الغضا من النعم

زهاء ألفي ناقة منها وما ** ملأ بين جبلين غنما

لرجل وبله ما لحلقه ** منها ومن رقيقه وورقه

الخ قالوا: لو كان يجب قسم الأخماس الأربعة على الجيش الذي غنمها، لما أعطى صلى الله عليه وسلم ألفى ناقة من غنائم هوزان لغير الغزاة، ولما أعطى ما ملأ بين جبلين من الغنم لصفوان بن أمية، وفي ذلك اليوم أعطى الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل، وكذلك عيينة بن حصن الفزاري حتى غار من ذلك العباس بن مرداس السلمي وقال في ذلك شعره المشهور:
أتجعل نهبي ونهب العبيد ** بن عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس ** يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما ** ومن تضع اليوم لا يرفع

وقد كنت في الحرب ذا تدرإ ** فلم أعط شيئًا ولم أمنع

إلا أباعير أعطيتها ** عديد قوائمه الأربع

وكانت نهابًا تلافيتها ** بكرى على المهر في الأجرع

وإيقاظي القوم إن يرقدوا ** إذا هجع الناس لم أهجع

قالوا: فلو كان قسم الأخماس الأربعة على الجيش الغانمين واجبًا، لما فضل الأقرع وعيينة في العطاء من الغنيمة على العباس بن مرداس في أول الأمر قبل أن يقول شعره المذكور. وأجيب من جهة الجمهور عن هذه الاحتجاجات: فالجواب عن آية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} [الأنفال: 1] هو ما قدمنا من أنها منسوخة بقوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيءٍ} الآية، ونسبه القرطبي لجمهور العلماء، والجواب عما وقع في فتح مكة من أوجه:
الأول: أن بعض العلماء زعموا أن مكة لم تفتح عنوة، ولكن أهلها أخذوا الأمان منه صلى الله عليه وسلم: وممن قال بهذا الشافعي رحمه الله.
واستدل قائلو هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» وهو ثابت في الصحيح، وهذا الخلاف في مكة هل أخذها النَّبي صلى الله عليه وسلم عنوة؟ وهو قول الجمهور، أو أخذ لها الأمان. والأمان شبه الصلح، عقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله: في غزوة الفتح يعني مكة.
واختلفوا فيها فقيل أمنت ** وقيل عنوة وكرهًا أخذت

والحق أنها فتحت عنوة كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله. ومن أظهر الأجوبة عما وقع في فتح مكة، أن مكة ليست كغيرها من البلاد، لأنها حرام بحرمة الله من يوم خلق السماوات والأرض إلى يوم القيامة، وإنما أحلت له صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار، ولم تحل لأحد قبله ولا بعده، وما كان بهذه المثابة، فليس كغيره من البلاد التي ليست لها هذه الحرمة العظيمة.
وأما ما وقع في قصة حنين فالجواب عنه ظاهر، وهو أن النَّبي صلى الله عليه وسلم استطاب نفوس الغزاة عن الغنيمة ليؤلف بها قلوب المؤلفة قلوبهم لأجل المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، ويدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع أن بعض الأنصار قال: يمنعنا ويعطي قريشًا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، جمعهم النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكلمهم كلامه المشهور البالغ في الحسن، ومن جملته أنه قال لهم: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم» إلى آخر كلامه، فرضي القوم، وطابت نفوسهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظًا، وهذا ثابت في الصحيح، ونوه الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بحسن هذا الكلام الذي خاطبهم به صلى الله عليه وسلم بقوله: في غزوة حنين.
ووكل الأنصار خير العالمين ** لدينهم إذ ألف المؤلفين

فوجدوا عليه أن منعهم ** فأرسل النَّبي من جمعهم

وقال قولًا كالفريد المؤنق ** عن نظمه ضعف سلك منطقي

فالحاصل أن أربعة أخماس الغنيمة التي أوجف الجيش عليها الخيل، والركاب للغزاة الغانمين على التحقيق، الذي لا شك فيه، وهو قول الجمهور.
وقد علمت الجواب عن حجج المخالفين في ذلك. ومن العلماء من يقول: لا يجوز للإمام أن ينفل أحدًا شيئًا من هذه الأخماس الأربعة، لأنها ملك للغانمين، وهو قول مالك.
وذهب بعض العلماء إلى أن للإمام أن ينفل منها بعض الشيء باجتهاده، وهو أظهر دليلًا، وسيأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى.

.المسألة الثانية: هي تحقيق المقام في مصارف الخمس الذي يؤخذ من الغنيمة قبل القسمة:

فظاهر الآية الكريمة أنه يجعل ستة أنصباء: نصيب لله جل وعلا، ونصيب للرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيب لذي القربى، ونصيب لليتامى، ونصيب للمساكين، ونصيب لابن السبيل.
وبهذا قال بعض أهل العلم: قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية الرياحي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيخمسها على خمسة تكون أربعة أخماس منها لمن شهدها، ثم يؤخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ الذي قبض كفه، فيجعله للكعبة وهو سهم الله، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم، فيكون سهم للرسول صلى الله عليه وسلم وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
وعلى هذا القول فنصيب الله جل وعلا للكعبة، ولا يخفى ضعف هذا القول لعدم الدليل عليه.
وقال بعض من قال بهذا القول: إن نصيب الله جل وعلا يرد على ذوي الحاجة.
والتحقيق أن نصيب الله جل وعلا، ونصيب الرسول صلى الله عليه وسلم واحد، وذكر اسمه جل وعلا استفتاح كلام للتعظيم، وممن قال بهذا القول ابن عباس، كما نقله عنه الضحاك. وهو قول إبراهيم النخعي، والحسن بن محمد بن الحنفية، والحسن البصري، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن بريدة، وقتادة، ومغيرة وغير واحد كما نقله عنهم ابن كثير.
والدليل على صحة هذا القول ما رواه البيهقي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن شقيق، عن رجل، قال: أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو يعرض فرسًا، فقلت: يا رسول الله ما تقول في الغنيمة؟ فقال: «لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش» قلت: فما أحد أولى به من أحد، قال: «لا ولا السهم تستخرجه من جيبك لست أحق به من أخيك المسلم» وهذا دليل واضح على ما ذكرنا.
ويؤيده أيضًا ما رواه الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب الكندي، أنه جلس مع عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، والحارث بن معاوية الكندي رضي الله عنهم، فتذاكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس، فقال عبادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم. فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتناول وبرة بين أنملتيه، فقال: «إن هذى من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر، وجاهدوا في الله، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من الهم والغم».
قال ابن كثير بعد أن ساق حديث أحمد. هذا عن عبادة بن الصامت، هذا حديث حسن عظيم، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه: ولكن روى الإمام أحمد أيضًا، وأبو داود، والنسائي من حديث عمرو بن شعيب. عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحوه في قصة الخمس، والنهي عن الغلول.
وعن عمرو بن عبسة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من هذا البعير. ثم قال: «ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذه إلا الخمس، والخمس مردود عليكم». رواه أبو داود، والنسائي.
فإذا عرفت أن التحقيق أن الخمس في حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم. يقسم خمسة أسهم، لأن اسم الله ذكر للتعظيم، وافتتاح الكلام به، مع أن كل شيء مملوك له جل وعلا، فاعلم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يصرف نصيبه، الذي هو خمس الخمس، في مصالح المسلمين. بدليل قوله في الأحاديث التي ذكرناها آنفًا. «والخمس مردود عليكم»، وهو الحق.